ليلة زفاف نورة...
كانت ليلة زفافها ليلة غير عادية، اختلطت فيها مشاعر الفرح بالحزن والخوف. كانت نورة ابنته الوحيدة، وكانت علاقته بها أكثر من مجرد علاقة بنت بأبيها. ولدت نورة في سنة ابتعاثه إلى الولايات المتحدة للدراسة، وهي بهذا واكبت مشوار دراسته العليا منذ نعومة أظفارها.
سافرت معه إلى مدينة سياتل بولاية واشنطن، وكانت أياماً جميلة، امتزجت فيها طفولتها البريئة الحلوة بزخات المطر التي لا تكاد تفارق أرض تلك المدينة دائمة الخضرة في الشمال الغربي الأميركي. آنست ليالي غربته، وملأت حياة زوجته، وكان الزوجان ينامان ويستيقظان على خرير الأمطار التي تتساقط سبعة أشهر في العام، أو على صوت نورة وهي تطلب حاجة لها، أو تعبر فقط عن مشاعرها بضحك أو بكاء. كانت تجور أحياناً، وتؤنس أحياناً، ولكن كما قال الشاعر:
يجور وبعض الجور حلوٌ محببٌ
ولم أرَ قبل الطفل ظلماً محببا
ويغضبُ أحياناً ويرى وحسبنا
من الصفو أن يرضى علينا ويغضبا
يزفُّ لنا الأعيادَ عيداً إذا خطا
وعيـداً إذا ناغـى وعيداً إذا حبا
كبرت نورة أمام أعين والديها. كبرت وصارت قبلة الأنظار حسناً وسجية. لم يكن أبوها يملّ ملاعبتها والثرثرة معها. وكان فارسها الوحيد، كانت إذا ادلهمت في وجهها الخطوب لجأت إليه وحده، إلى (بابا). لم تكن هناك قوة في الأرض تستطيع أن تشفي غليلها ممن عكر مزاجها أو جرح مشاعرها سواه. كان قوة الردع الحقيقية، وجيش التدخل السريع الذي لا يشق له غبار، ولا يتردد في الدفاع عن حياض كريمته باللسان والسنان معا.
كبرت نورة ولم تكبر. لقد ظلت صغيرته ومُنى خاطره وبهجة أنسه. وعلى رغم أنه كان يعاندها أحياناً ولا يلبي طلباتها، فإن حصون مقاومته تتهاوى الواحد تلو الآخر إذا برقت في عينيها بوادر دمعة. لكنها كانت تغلبه كثيراً بابتسامتها العذبة ونظراتها الساحرة. كان إذا شعر بتقصير نحوها يندم كثيراً، وربما خنقته دموعه، ويقوم في أقرب فرصة بإصلاح الخطأ، وإعادة الماء إلى مجراه.
وتوافد الخطاب يطرقون الباب. جاءت لحظة الحقيقة. كان لا بد أن يطل ذلك الرجل الذي سيأخذ نورة يوماً ما. هكذا هن البنات، يكبرن ويتعلمن، ثم يصبحن محط أنظار الشباب، ثم يتزوجن وينسين (بابا)، ينسين الفارس الأول.
أجل... ربما يكون الفارس الأول، لكنه ليس الفارس الوحيد والأمثل طوال العمر. تمت الخطبة، وبعدها انهمكت نورة في الإعداد للزفاف، لليلة العمر، لليلة التي تصبح فيها ابنته زوجة وسيدة بيت.
لكن الامتحان الأصعب كان ليلة الزفاف؛ داهمه شعور غريب تلك الليلة: مزيج من الخوف والقلق والحزن وشيء يسير من الزهو. لقد رأى نورة بلباس الفرح الأبيض الطويل وهي في قمة جمالها وروعتها.
كانت بريئة الملامح، باهرة الحسن، مشرقة القسمات. لكن كيف يمكن الوثوق بشهادة أبيها الذي لا يمكن أن يراها إلا أجمل الكائنات. لا من يثق في كلامه وتقديره يدرك كم كانت فتاته ليلتها ملاكاً يأسر الألباب. أمسك بها وضمها إلى صدره بحنان غامر، وغالب دموعه وهو يشاهدها بجانب زوجها.
جاشت في نفسه مشاعر شتى: ماذا أقول؟ هل أقول إن هذا الفتى جاء ليختطفها من يدي، ويواريها عني، فلا تزورني إلا لماما؟ هل أقول إنه جاء ليقطف وردتي التي طالما تألقت في صحراء حياتي، وكنت أرعاها وأتعهدها بنهر حناني؟ هل أقول إنه جاء ليسرق فرحتي بنورة، ويسلخها عني، بلا اعتبار لمشاعري وتضحياتي؟.
ولكن من أنا الآن؟ أنا لست سوى أبيها، وهو زوجها ورفيق حياتها. أنا الآن كالرئيس الذي انتهت ولايته، ولم يَعُد له على شعبه نهي ولا أمر. ترى، هل "بابا" بالنسبة لنورة مرحلة وانتهت؟ هل "اغتصب" هذا الرجل مكانتي ودوري، وانتزعني من حياة ابنتي إلى الأبد؟.
غالب عواطفه، ثم ودع ابنته داعيا لها، وعاد من حيث أتى، إلى البيت الذي طالما ملأته نورة نشاطا وحبورا وضحكات وأغنيات، فوجد الدار غير الدار. في صباح اليوم التالي استيقظ ولم يجد نورة. توقع أن يراها ويجلس إليها، أن يفطرا معا، أن يتجاذبا أطراف الحديث. لكنه لم يرَ طيفها، ولم يسمع صوتها. دخل غرفتها فإذا هي بقايا ذكريات، وأوراق مبعثرة. تذكر عندئذ قول الشاعر:
أشوقاً ولما يمض بي غيرُ ليلةٍ
فكيفَ إذا خبَّ المَطيُّ بنا عشرا
جلس في صالة المعيشة حيث كانت نورة تتألق كوردة ربيعية زاهية، فشعر باليتم واستبد به الشوق، وهنا تدفقت على لسانه هذه الأبيات باللهجة المحلية:
بيتٍ بلا نورهْ بيتٍ بلا نورْ
ما فيه روح يا صديقي وراحهْ
بيتٍ بلا نورهْ كما عشْ مهجورْ
مثل الجسدْ تعبانْ وزادتْ جراحهْ
بيتٍ بلاها اليومْ موحشْ ومكسورْ
مثل الحَمام اللي تساقط جناحهْ
شوق لطلتها في القلب محفورْ
شوق لوجه يكتسي بالملاحهْ
شوق لضحكاتْ وآمالْوسرورْ
شوق لكل الطيبْ وكل السماحهْ
بيتي بها سامي ودافي ومعمورْ
بيتي بها للفرحْ قصر وساحهْ
بيتي بها جناتْ وأعراسْ وزهورْ
هذا شعور من صميم الصراحهْ
يا لله يا ربْ تجعل أمرها ميسورْ
وتسعدها طول الدهر ليله وصباحهْ
ردد الرجل هذه الأبيات وهو يكفكف دموعا ساخنة هطلت على وجنتيه. الغريب أنه كان يبكي بحرقة كالأطفال. رأته أمها، فبكت هي الأخرى. قال لها: لا أفهم لماذا أحزن هكذا، إنه فرحها، فكيف أحزن؟ وافقته زوجته قائلة وهي تغالب دمعها: إنها سنة الحياة، وهذا موسم للاحتفال، فلا معنى للحزن أبدا. قال في نفسه: ويحك، لماذا لا تكن كغيرك من الآباء الذين يزوجون بناتهم، ثم ينامون ملء أجفانهم؟.
بعد هنيهة رن جهاز المحمول، فإذا بصوتها العذب ينساب في مسمع الوالد
المشتاق:
- بابا، صباح الخير.
- أهلا نورة، كيف أخبارك؟.
- بخير الحمد لله.
- إن شاء الله مبسوطة؟.
- الحمد لله.
- والعريس؟.
- أكيد مبسوط ما دام معي.
بعد انتهاء المكالمة اتصل به صديقه أبو أحمد مباركا ومهنئا، ثم قال مداعبا: يا أخي يكفي نورة فخرا أنها نقلتك من مرحلة الشباب إلى مرحلة الكهول.
أجل صحيح، آه يا زمن، ربما تأتيه نورة قريبا بطفل تحمله، ويصبح جدا في عز شبابه.
منقووووووووووووووول