الثقافة القانونية وحماية المنجز
قطع مجتمعنا شوطاً كبيراً ومهماً في مضمار التقدم والتحديث، الذي طال بنى ومفاصل المجتمع ملبياً شروط العالمية والحداثة ولا نعني بذلك شروط العولمة بالضرورة، سواء أتجلى ذلك في مجال التعليم والصحة والبيئة أم في مجالات تطور ونماء الجسد الاجتماعي الكثيرة والعديدة، ما يعني أن الواقع قد يفرض شروطه وقد يسبقنا، وأنّ على البنى الفوقية التي تقود وتوجه تطور ونماء المجتمع نحو التغيير المرغوب أن تكون قادرة على حماية المنجز والمكتسبات وصونها بالتشريع، وما يتفرع عن منظومته من قوانين وتعليمات تأخذ بيد المواطن نحو رشد قانوني بات في ظل الهجمة المعرفية وكتلتها المادية الثقيلة ضرورياً وملحاً، بل وصار من مطلوبات الانخراط الايجابي في النسيج المجتمعي، وفي إحداثيات التنمية الشاملة المستدامة، وهذا يعني أن الثقافة القانونية التواصلية، ستعني ضرورة احترام القوانين، واحترام القضاء، وتعزيز الثقة به وبمؤسساته بوصفه تجسيداً لسيادة الدولة وتوزيعاً لمهامها ومسؤولياتها والناظم لكل فعالياتها، فوضع هذه الثقافة القانونية التواصلية في سياق التنمية الشاملة المستدامة، سيعني وضعها في سياق التطلعات السياسية الساعية إلى بناء تعاقد اجتماعي بين الوطن والمواطن، يحتكم فيه إلى القانون ومؤسساته، ذلك أن الاحتكام إلى منظومة العرف والتقاليد مثلاً في السياق التقليدي المعتاد قد يتناقص مع قيم الحداثة واليقظة المعرفية القسرية، التي لا تعترف بالمظاهر والمحتكمات العصبوية، بل وتراها من مظاهر الحياة في مجتمعات ما قبل الدولة الديمقراطية، بل إن منظومة الأعراف المجتمعية قد تناهض حقوق الإنسان وقد تميز ضد المرأة مثلاً وعليه فالعقد الاجتماعي الديمقراطي هو الذي يحترم القضاء مؤسسات وأشخاصاً، ويحترم حصانتهم، بوصفهم أحد أهم صمامات أمن وأمان المجتمع .
وعليه فإن الثقافة القانونية التواصلية ستندرج أيضاً في مسار الثقافة القانونية السياسية القادرة على توجيه الممارسة السياسية وترشيد قراراتها، وانتاج مفهومات وآليات منهجية تلبي مطلوبات الواقع السياسي وهذا يقتضي أيضاً الشراكة والتدريب والتأهيل مع المؤسسات الرسمية ذات الأطر المؤسسية للعمل السياسي كالبرلمان ومراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني فما زلنا بحاجة إلى التثقيف على الصعيد المدني.
لقد أكدت تقارير التنمية البشرية المتلاحقة، والصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على بناء ثقافة قانونية تواصلية لحماية الحقوق والحريات العامة ما يعني التثقيف في أهمية تواؤم القوانين مع الواقع، وعدم قفزها على هذا الواقع، كي لا تفقد وظيفتها وحيويتها، وحيث أن فاعلية القوانين وإمكانية تطبيقها مما قد يعطل الأولويات الديمقراطية، وخاصة فيما يتعلق بالمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والحريات الأساسية كما سبق وأشير إلى ذلك.
كما ركزت أدبيات تقارير التنمية البشرية على أن دور القانون يتجلى في تقديم وبناء قاعدة الحل في حالة التنازع بوصفه آلية حضارية لفض أية خصومات، كما أن الثقافة القانونية التواصلية ثقافة تنويرية، وخاصة في مجال القيم التي يحميها القانون : كالحريات الشخصية، وحرية التعبير، وخاصة أمام مظاهر التطرف والغلو النابعة من القاعدة المجتمعية نفسها أحياناً ما يعني السعي لوضع ضمانات فاعلة في القوانين والإجراءات القانونية خاصة في حالات عدم احترام القانون أو إنفاذه، وفي مثل هذا السعي وهو المفترض أنه نابع من الداخل المجتمعي سيصون المكتسبات ويحميها وسيحصن الذات المجتمعية والنسيج المجتمعي، فحماية المنجز والمساواة، وتوزيع مكتسبات التنمية سيؤدي إلى الرضاء والأمان والطمأنينة والمقام الكريم في هذا الوطن النبيل.
د. رفقة دودين